في زيارة لصديقي حمزة، وجدت عنده هذا العمل المطرّز يدوياً:
توقفت مذهولاً أمامه. واختلطت عليي الأفكار والرؤى. هل أنا أمام العشاء الأخير لدافنشي؟ أو جورنيكا بيكاسو؟ أم هو عمل ملحمي من نوع مختلف!
شاب مسجى على طاولة، يحيط به جمع من النساء والرجال، وطفل. ويعلو الرسم آية “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”
ويأطر العمل كاملاً حبل زخرفي مشكّل من علم فلسطين.
٢٢ امرأة ورجل وطفل يحيطون بالشهيد. هل في ذلك إشارة لعدد الدول العربية؟
نساء تبكي، صبايا بعيون زرق ينتحبن، امرأة تطلق الزلغوطة احتفاءً بعرس الشهيد. هل هي أمّه؟
أحذية النسوة تتنوع، وكذلك ألوان ألبستهن، ونقوش أثوابهن، وطرحات رؤوسهن، وتعابير وجوههن. “هن” من يعطين للألم والفقد معناه البشري المفهوم!
الطفل في المشهد، يحتاج لفلاسفة تصف وجوده! ما الذي يفعله وسط هذا الطقس الجنائزي؟ هل المسجى هو والده أو أخوه؟ هل التحق الطفل بالجمع من باب الفضول؟ هل هو مدرك لمدى الألم والحرقة الممزوجة بزلاغيط السلام على روح الشهيد!
تأملت قليلاً بالعمل، ثم تأملت كثيراً وكثيراً.. صديقي أعجبه وصف “العشاء الأخير” الذي أطلقته في بداية تجربتي البصرية مع هذه الملحمة، بعد تفكير مطوّل، اسميتها لوحة “الشهيد الأخير”!
نعم، هذا الجمع المحيط بالشهيد، والذي قد أطلق عدة شهداء من قبله للفردوس الأعلى، هذا الجمع يقول في خاطره: هذا هو شهيدنا الأخير! نريد أن نقف بوجه القتل! نريد للموت والظلم أن يستريحا بعيداً عن قريتنا..
ربما!
مبدع هذا العمل، هو رجل بسيط، أدرك الفن كممارسة شعبية، عاش الفن منذ نعومة أظفاره، طرّز بأصابعه مئات وآلاف وملايين السنتيمترات المربعّة من حكايا فلسطين تحت ضوء القمر ونيران الاحتلال، وأوجاع الأرض، وفرح الأطفال. هو الذي أطلق على نفسه لقب “فنان”، واعتبر نفسه بهذا العمل “مؤلفاً”، وكأن العمل هو رواية.. أو فيلم سينمائي.. أو عرض مسرحي يمزج بين الحرف والصوت والضوء والألوان!
أما عن الصنعة الحروفية الطباعية في هذا العمل، فهي بحر آخر غصت في أعماقه، ولمست به الجودة والألفة، الجودة الطباعية الاحترافية بتصميم هكذا خط طباعي متماثل ومدروس الأبعاد والأشكال يستلهم نمط الخط الكوفي، وبنفس الوقت يألفه أي قلب يقرأ تلك الآية الكريمة التي تؤكد على حياة الشهيد الخالدة!
برأيي، يستحق أن يسمي نفسه فناناً، من ينقل قصص قومه وآلام شعبه للعالم الجاهل خارج أسوار مدينته وشواطئ بلده، مستخدماً مهاراته البسيطة، وعفويته المفرطة، وحسن صنعته!
شكراً لك، شكراً أبو الصبر الحزين، شكراً هشام الزير.