سبيل القرطبي: من المخطوط وحتى الكتاب

بقلم: عمر زكريا

يظنُّ الكاتب الذي يحاول إصدار كتابٍ للمرّة الأولى أنَّ الانتهاء من المسوّدة النهائية هو بداية النهاية. بأنّه شارف على الانتهاء من مرحلة من حياته وأنّه سيبدأ يفكّر بمشروعٍ جديد أخيرًا

لقد أنهيت العمل على رواية “القرطبي، يستيقظ في الاسكندرية” في شباط من عام 2020، لم يكن عملي الأول لكنّه أول ما قرّرت الدفع به إلى دور النشر. ظننتُ في قرارة نفسي أنَّ العمل أتى بعد خبرة طولها أربع سنوات من المحاولات الكتابية والبحث، منها سنة ونصف على هذه الرواية تحديدًا بين أوراق النهضة العربية والصحف والمجلات ستجعل من الكتاب “لقطة”. بدأتُ بإرسال المخطوط النهائي. وأرسلته إلى ثلاث أو أربع دور نشرٍ كبيرة التي أحبُّ إصداراتها. وقالوا لي جميعًا بأنّنا سنردُّ عليك خبرًا في مدّة تتراوح بين الشهرين والستة أشهر

دور النشر الأولى التي أرسلت لها المخطوط اخترتها لعدّة أسباب أهمّها عدم تكلفتهم للكاتب سعر الطباعة وتبنيهم للكتاب كاملًا. كما أنَّ شبكات توزيعهم في العالم العربي، وحتى الغربي، واسعة. وأخيرًا نوعية إصداراتهم جيدة المضمون وحسنة الصنعة؛ فبهذا تكون روايتي بجانب كتبٍ عريقة ومطبوعة بشكلٍ جيّد

بعض تلك الدور لا تتبنّى نموذجًا لكل أغلفتها وإخراجها، وكلُّ كتابٍ له طابع خاص (وأحيانًا كل إصدارات كاتب واحد تكون مصممة بنموذج موحّد). هذا التوجّه التصميمي فتح أمامي الباب لمفاتحة صديقي الذي كان قد أبدى اهتمامًا بمحتوى الكتاب؛ وهو صديقي الحروفيّ والمصمم حسين الأزعط، أو كما أحبُّ أن أسميه صائغ الكتب

لحسين نظرية مفادها أنَّ المطبعة دخلت إلى العالم العربي بشكلها الواسع بعد مايقارب الأربعمئة عام من اختراعها في أوروبا. هذا يعني أنَّ صناعة الكتب في العالم العربي متأخّرة عن صناعة الكتب في الغرب أربعمئة عام. يملك حسين عددًا هائلًا من المراجع البصرية لتاريخ الكتاب العربي وأساليب طباعته نمّت عنده الهدف بأن يقدر يومًا أن يردم الفوات التاريخي بين الكتاب العربي والكتاب الغربي

من أوائل الكتب العربية التي تطبع في البلاد العربية، عام ١٨٢٢ في المطبعة الأميرية ببولاق، بعد قرابة الأربعة قرون من اختراع جوتنبرج للمطبعة ذات الحروف المتحركة.

هذه مفارقة مضحكة، لقد تأخّر الكتاب الغربي قرونًا عن التطوّر من البرشمان والرَّق إلى استعمال الورق لأنَّ الغرب لم يشأ استيراد الورق من العرب الهراطقة، ونحن بدورنا في ثقافتنا العربية-العثمانية رفضنا المطبعة للسبب الذاته. والآن نعيش مرحلة محاولة اللحاق بما رفضناه سابقًا. وأنا ذا أكلّم حسين في شأن تصميم رواية تتناول تاريخ النهضة العربية التي قامت على رأسملة المطبعة وإنشاء المجلّات والمطبوعات الخاصّة

بدأت الأيام تمر، وبدأت بالشكّ بقابلية قبول كتابي، إنّه رغم كلّ شيء كتابٌ أوّل لشخصٍ غير معروف لا يملك حتى حسابًا شخصيًا على مواقع التواصل الاجتماعي. أخذني هذا الشك إلى إرسال المخطوط إلى المزيد من دور النشر

الرفض والقبول في عالم النشر لا يخضع فقط لمعايير جودة الكتاب، بل وقابلية توزيعه وتسويقه أيضًا. بدأت تتوالى عليّ الرسائل الرافضة للكتاب. معظمها لم يبدِ أي سبب ورفض إعطاء أيّ منها عند مراجعتي لهم، ومن هُناك علمت من بعض العاملين في المجال أنَّ دور النشر التي أرسلتُ لها الرواية لا تنشر إلا لكُتّاب معروفين. وأُخرى بدأت ترفض متحججة بصعوبة اللُّغة أو لنخبوية الموضوع

يقول الناقد والروائي الإيطاليّ أُمبيرتو إيكو في إحدى مقابلاته أنَّ الناس تشتهي الروايات الصعبة التي تتحدّاهم، وفقط الناشرين وبعض الصحافيين يعتقدون أنَّ الناس تبحث عن القراءات السهلة، واستند في قوله إلى واقع أنَّ الرواية الوحيدة التي راعى فيها رغبة السوق في الاستسهال لغةً وموضوعًا، رواية “شعلة الملكة لوانا الغامضة”، كانت الأقل مبيعًا من بين جميع رواياته الثقيلة والصعبة. ويبدو أنَّ ناشرينا لا يختلفون عن أولئك الذين تعامل إيكو معهم

معظم دور النشر الذين تعاملتُ معهم لم يردّوا على رسالتي، ومنهم من أرسلت لهم معقّبًا بعد عدة أشهر طالبًا منهم فقط أن يؤكدوا لي استلام المخطوط، لكن لا حياة لمن تنادي. بعد المرحلة الأولى من المحاولات بدأتُ أرسل إلى دور نشرٍ أُخرى لم أفكّر بها، فمنها ما لم أسمع به قبلًا وآخرين أعلم أنّهم يطلبون مالًا لقاء النشر، ومع ذلك حاولت. وبدأت تنهال عليّ سلسلة جديدة من الردود؛ الكبير من هذه الدور اعتذر لأنَّ خطة النشر مكتملة وآخرين طلبوا منّي مبالغ ضخمة وصلت أعلاها إلى 2400 دولار أمريكي مقابل أعدادٍ كبيرة من النسخ أقوم ببيعها بنفسي. لكنّني لو أردت خوض غمار البيع لذهبت فورًا إلى مطبعة عوضًا عن التصارع مع ناشرين لأكون شريك خسارة من هذا النوع. أمّا الدور التي كانت أصغر حجمًا فإمّا اعتذروا لأنَّ عام 2020 كان عام الوباء الذي أوقف الكوكب عن الدوران أو طلبوا مبالغ مالية أقل، أذكر منها من طلب 1000 دولار

لكنّني لم أصل إلى طريقٍ مسدود، فناشران أبديا اهتمامًا بالرواية ورغبةً في تبنيها. الأولى دارُ نشرٍ في بيروت، صغير ولا يُصدر إلّا إصدارات منتقاة بعناية وخبرتهم في التوزيع كانت محلية، وهو أمرٌ أغراني للتعامل معهم لولا الأوضاع الاقتصادية والسياسية في لبنان التي ستجعل من عملية تحضير الكتاب وتوزيعه يأخذ أضعاف الوقت الذي يحتاجون له فاضررت آسفًا الاعتذار منهم. أمّا الناشر الثاني فهم “منشورات مجاز” في عَمّان القائمة على منشوراته الأكاديمية الناقدة والروائية شهلا العجيلي، والتي صادفت أنّها مهتمّة بفترة النهضة وتقوم بتدريس أدب تلك الفترة، وكانت موضوعًا قد تناولته في كتابٍ نقدي كان قد صدر قبل أسابيع فقط من اتصالي بها

أرسلتُ الكتاب للدكتورة شهلا وقامت بقراءته ووضع الملاحظات عليه والتنسيق مع شركائها “منشورات ضفاف” في بيروت التي يديرها الأستاذ بشار شبارو و”منشورات الاختلاف” في الجزائر. وبعد سبعة أسابيع من الانتظار عاد إليَّ المخطوط مع العقد وإذنٍ يسمح لي بالتعامل مع أي مصممٍ أُريد

هنا بدأت رحلتي الجديدة في عالم صناعة الكتاب. لم أكن أتخيّل أن أتعلّم التفاصيل التي تعلّمتها لو لم أتواصل مع حسين. أول خطوة قام بها هي إعطائي أربعة خيارات للغلاف الأمامي من الكتاب. اثنان منها كانا مبنييّن على الكتب القديمة، وفكرتهما كانت أنَّ كتابًا يتحدَّثُ عن فترة النهضة العربية يمكن له أن يشبه كتب تلك المرحلة. كانا غلافين مزخرفين عليهما عنوان الكتاب مطبوعًا بواسطة قوالب خشبية متحركة صنعها حسين خصيصًا من أجل هذا الكتاب وفوق العنوان وضع وسماً يحاكي زمن المطبعة الأميرية في بولاق حتى يكتمل المظهر العام

حروف الطباعة الخشبية القديمة من مصر والتي تعود لبدايات القرن العشرين، من مقتنيات حسين الأزعط في مساحته “بيت الحرف” في عمّان، الأردن
التصميم الحروفي الذي أعدّهُ حسين بالقوالب الخشبية المتحركة والحبر ثم الطباعة يدوياً على الورق، بنفس تقنيات زمن الرواية المفترض.
تصميم الغلاف الأول الذي اقترحه حسين، وبه يحاكي الأنماط الزخرفية في الصفحات الاستهلالية للكتب في زمن الرواية المفترض، ويتوسط الغلاف التصميم الحروفي لعنوان “القرطبي” وبجواره عناوين جانبية بخط الآلة الكاتبة العربية (الذي صممه حسين رقمياً أيضاً) وضمن الزخارف التي تتلاشى وتلتقي يظهر ذكر للسنة التي تجري بها أحداث الرواية: ١٩٠٢

أحببت أحد التصميمين، فهو تمامًا ما كنت أتخيله مناسبًا للكتاب. لكن حسين فاجأني بتصميمٍ آخر يعتمد على الصورة أكثر، تصميمٌ يحمل عليه جميع التفاصيل التي في الكتاب بشكلٍ يُفرح الناظر. ولهذا التصميم أعطاني خياريّن؛ أحدهما يحمل العنوان مطبوعًا بواسطة الأحرف الخشبية والآخر بخط النستعليق تيمنًا بخطوط المجلات القديمة وعناوين الكتب

نموذج لبعض المراسلات الطريفة من حسين أفندي إلى حضرتنا

هنا وقعت في حيرة، فالتصميم الأول جميل لكنّه مغامرة في عالم الصورة وخاصة أنّه الإصدار الأول لي. أمّا الثاني فهو جميل ويليق بمحتوى الكتاب بل ويثبت للقارئ بأنَّ المصمم مطلع على ما في الكتاب ومجيد لعمله، فاخترته. اخترت صاحب الصورة والحروف الخشبية واستطعت الثبات على قراري رغم كلّ الشك الذي اعتراني فالخيارات الأربعة التي أبرزها لي حسين كانت متفوقة

تصميم الغلاف الذي اعتمدته للرواية، فيه العنصر الحروفي الأصيل لزمن الرواية، وبه العناصر المصورّة كبانوراما لمدينة الاسكندرية، وتمثال أبوالهول من منطقة عامود السواري في عروس المتوسط

بدأت مرحلة الإخراج الداخلي للكتاب. وطلب منّي حسين أن أعطيه تقسيمات عامة للكتاب. استغربت الطلب، فأوضح لي أنَّه يفكّر بإضافة رسومٍ مبنية على عبارات داخلية في الرواية تكون أغلفةً داخلية. وجدت أن الكتاب يمكن تقسيمه لأربع أقسام عامة واخترت من العبارات أربع جمل على لسان شخصيات غير الراوي لتكون الأغلفة الداخلية إبرازًا لدورهم في هذه الرواية ولألا يحتكر الراوي السرد بأكمله. والرسوم الداخلية قام بها الفنان فراس مجذوب بعد أن أوضح له حسين الفكرة العامة المرجوّة من كل رسمة

هذا الرسم التخطيطي من إعداد الفنان فراس المجذوب خصيصاً للقسم ما بعد الفصل الثامن والعشرين

أمّا الخطوط الداخلية فمنها اثنان ونصف. أمّا الاثنان فهما خط “صقّال كتاب” من تصميم الحروفي الدكتور مأمون الصقّال، ابن حلب البارّ المقيم بالقرب من سياتل، الولايات المتحدة، وقد كُتِبَ فيه مجمل المتن. أمّا الثاني فهو خط “الآلة الكاتبة العربية” من تصميم حسين نفسه وقد اعتمده من أجل الاقتباسات التي استعملتها في الرواية على لسان شخصيات حقيقية. والاقتباسات قد كتبوها فعلًا. يبقى النصف، وهو خطُّ النستعليق الذي استُعمل في موضعٍ واحدٍ من الرواية في عنوان كتابٍ تذكره إحدى الشخصيات. وسبب فعل ذلك هو أنَّ الرواية تتمحور حول كتابة هذا الكتاب

الخط الطباعي “صقّال كتاب” كما يظهر بحلته ومفاتنه في إحدى صفحات الرواية.

لقد كانت هذه العملية صعبة لكنّها كانت ممتعة، وبيني وبين حسين ما يقارب السبع مسوّدات على البريد الإلكتروني بين أخذٍ ورد ومراجعات قمنا خلالها بالنظر في النص عدة مرّات. إحداها كانت إستشارة من مأمون الصقّال أيضًا. هذه هي إحدى المرّات القليلة التي أعمل فيها على مشروعٍ يدور حوله كمٌّ من المتخصصين العارفين لصناعة الكتب، وهذا ما أكدّ لي أن صناعة الكتاب هي جهدٌ جماعي وليس جهدًا فرديًّا.  وهذا ما أوضح لي أيضاً الاستهتار الحاصل في مشهد النشر العربي. وقد أسرّ لي حسين مرّة في أحد لقاءاتنا أنَّ خط “صقال كتاب” هو: يكاد أن يكون أول خطٍ عربي إلكتروني يتم تصميمه لأجل الكتب العربية خصيصًا ومن دون تدخل أو طلب أو تمويل من شركات أو مؤسسات غير عربية 

القرطبي يستيقظ في الإسكندرية” سعينا لجعله كتابًا عربيًّا مئة بالمئة، ومُنانا أن يكون قدوةً لما بعده 

تحديث: تم ترشيح الكتاب لجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها السادسة عشرة ضمن القائمة الطويلة لفرعي المؤلف الشاب